عبدالواحد عنايت
ابن أربيل الذي يجب ان لا ينسى
كثيرون هم الموهوبون اللذين يهبهم الله سبحانه و تعالى ملكة أو قدرة أو تميزا في حقل من الحقول أو جانب من جوانب الحس البشري و من ثمه الإبداع فيه ، و كذلك كثيرون هم هؤلاء اللذين لا تساعدهم البيئة أو الظروف على إظهار ملكاتهم للآخرين أو تصادفها عوائق تعيق انطلاقتهم ، و لكن هناك أيضاً آخرون يقدمون للآخرين ما تجود به قرائحهم و لكن لا الزمن و لا الناس ينصفونهم أو في الأقل ينسونهم .
زخرت مدينتنا أربيل بالكثير ممن تنطبق عليهم الأمور التي ذكرتها أو في الأقل بعضها و من هؤلاء الشاعر و الرسام المرحوم ( عبدالواحد احمد كمال ) المعروف ب ( عبدالواحد عنايت ) الذي كان يملك العديد من الملكات الإبداعية النابعة من حسه الوطني ،الرومانسي و أصالته الاربيلية و منها الشعر و الرسم .
ولد المرحوم في قلعة اربيل بتاريخ ١٠/ ٨ / ١٩٤٦ من أبوين اربيليين و أكمل دراسته الابتدائية و الثانوية فيها و حاول إكمال دراسته الجامعية في حقل القانون الذي كان يرغب فيه و لكنه لم يستطع ذلك بسبب ظروفه الخاصة و نتيجة لذلك توظف في معمل نسيج أربيل حيث تعرف هناك على زوجته السيدة الفاضلة ( فائزة محمد ) التي انجبت له أولاده ( شادان ، ئاريان ، كابان و ميران ) و كانت لهم نعم الام و نعم الاب ( بعد وفاة المرحوم ) فأحسنت تربيتهم و جعلت منهم حملة شهادات عالية و مكانات مرموقة .
لقد بدأت الميول الأدبية و الفنية بالظهور لدى المرحوم في سن مبكرة حيث بدا يقول الشعر و ينظم قصائد في جوانب حياتية متعددة كالانتماء للوطن و النضال في سبيله ، الإنسانية ، الحب و التغني بالمراءة و جمالها و على امتداد سنوات استمر في الكتابة في هذه المجالات حتى وصل به الامر الى تاليف مسرحية شعرية سماها( الحصاد ) اضافة الى ديوان شعر بعنوان (شراع الشوق ) لم يلحق ان يطبعهما و ينشرهما ،و من النماذج التي أوردها من قصائده يلاحظ القارئ مدى روح الإبداع ، الجمالية و الجراءة فيها ، ففي إحدى قصائده و هي بعنوان ( وطني ) يقول شاعرنا :
تعلق قلبي بحبك يا وطني
منذ الطفولة حتى الله وفقني
بان اصوغ لك الشعر في درر
ينبوعه فيك ، و مجراه في بدني
وفي قصيدة أخرى بعنوان ( شعري ) يكتب :
باناتي و آهاتي ...... نسجت أحلى أبياتي
على البؤس الذي يقفو ..... كطيف ثائر عاتي
و يقول في قصيدة بعنوان ( الحق ) :
إذا أردت بان تحيا بمفخرة ...... و ان تنال رضاء الله و الوطن
فالفخر ان تعطي في الحق تضحية ....... و ان تموت لأجل الحق في المحن
و كتب يقول في وصف امرأة و عينيها :
غادتي عيناك بحر يرسو فيه الحلم ....... و خصالا تتلألأ في سماه الأنجم
يعجز الإنسان في التعبير عن اوصافك ...... مثله يعجز و يمضي ببهاك القلم
انت فوق الحسن ، فوق الوصف ، حيث سحرك ..... يوقظ الأعمى ، و يحكي برؤياه الابكم
انت يا غادتي روح كيف يحيا دونها ......... قلبي المكلوم و هو لحم يسقيه الدم
و إضافة إلى الموهبة الشعرية كان المرحوم فنانا تشكيليا صور بريشته البديعة ، الطبيعة ، المراءة و المعاناة الإنسانية ، و من ينظر إلى لوحاته ، و منها التي ترونها ، يتبين له مدى الصدقية ، الدقة التعبيرية و رقة المشاعر التي كان يتصف بها المرحوم .
ان القدر لم يمهل شاعرنا الرسام الفنان عبدالواحد عنايت كي يكمل مسيرته فلقد وافته المنية اثر مرض عضال في ٢٦ / ١٠ /١٩٧٩ و هو لا يزال في مقتبل العمر و يشاء القدر ان تكمل ابنته الكبيرة شادان مسيرته الفنية في مجال الرسم حيث الانامل الرقيقة نفسها ظلت تمسك الفرشاة لتكمل رسم اللوحة التي بدئها الوالد الرسام .
كابان ، ابنته الصغيرة كتبت له رسالة شوق تقول فيها ( الآن عادت الدموع إلى العيون و الشوق إلى القلب و أنا اقرأ قصائدك و انظر إلى لوحاتك و أتذكر وعدك لي بان تأتي مع اول اشراقة للشمس في صبيحة يوم العيد و لكن ها قد مضى ثلاثون عاما و الشمس تشرق في كل صباح و الناس تحتفل بالأعياد و انت لا تأتي كما وعدتني كي تملا حقيبتي ، المصنوعة من الحصير و المرسومة عليها صورة القطة الوردية ، بالدراهم بل أجدها قد ملئت بحلوى الميت !
قالوا لي وأنا طفلة صغيرة انك ساكن تحت التراب فبدأت أراك في أحلامي و أنا ابني قصورا من الرمال علني أجدك فيها . لقد رحلت بعيدا يا أبي ، بعيدا عنا و تركتنا مع أشجاننا و لم يعد لي ما أتذكرك به سوى قميصك المخطط بالأبيض و الأسود كخطوط دالة على تاريخي معك ، لقد كبرت الآن يا أبي و بدأت أناقش و أحاور و أتحاكى مع من حولي في مواضيع شتى كما كنت تفعل انت ، كبرت إلا أنني مازلت تلك الطفلة الصغيرة المتلهفة لاحضانك و سأبقى كذلك إلى ان تحتضنني الأرض كما احتضنتك .
بترحالك يا أبي اصبح النهار ظلاما بائسا و بدلا من ان اسمع الهدهدة بدأت أذناي تسمعان صوت المدافع و القنابل ، اختفى كل ما هو جميل في الوجود ، الخوف بدا يصارعني في كل محطات عمري و الألم يرافقني سنينا بعد سنين .
أنا لا ألومك على ترحالك يا أبي بل ألوم طعنات الزمن الذي غدر بي و أنا لم أكمل حولين منه و لكنني فخورة و فرحة لأنني ابنتك و جزءا مكملا من احاسيسك و مشاعرك ) .